التاريخ الموجز لمستقبل النكد الأدبيّ | قصص

صورة تعبيريّة

 

(1)

كنّا في «مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ»، في خضمّ ورشة عمل كتابة إبداعيّة، عندما اقتحم شخص المكان. كان عاري الصدر، أحمر البشرة، فسفوريّ العينين والعروق، لا شعر على جسده ورأسه. بعد ثانيتين دخل ثلاثة آخرون، وبدؤوا بالتذوّق الأدبيّ؛ أي بلعق الكتب حرفيًّا والتهامها. قفز أحدهم على طاولة ورشة العمل، وبدأ بالتهام مسوّداتنا.

التهم المخلوق مسوّدة قصّة قصيرة لإحدى الكاتبات المشاركات في ورشة العمل، وقال لها: أنتِ لم تحادثي عائلتك منذ سنة، وتريدين الحصول على اهتمام الناس عبر الكتابة: :روحي صيري مؤثّرة وفنّانة مكياج أحسنلك"!

من ثَمّ، التهم المخلوق أوراق أحد الكتّاب المشاركين، وقال له: أنت، أمّا أنت فأمّك مثاليّة ومسيطرة، لهذا تحاول كتابة رواية معادية للنسويّة: "انساك من هذا المشروع الفاشل وروح اتجوّزلك بنت مش مخلصة توجيهي، وفش كلّ عقدك النفسيّة فيها".

قفز المخلوق أمامي بينما المخلوقات الأخرى تلتهم الكتب عن الرفوف. أنا أتذكّرك، من إحدى الندوات في «جامعة النجاح»، عندما كنتُ ناقدًا بشريًّا، حينذاك قلت لك أن تنسى الكتابة، وأن تبحث عن صنعة أخرى.

التهم نصّي، وقال لي: أنت مدمن مثلنا، تريد أن ترمي رسالة في زجاجة في بحر الأكوان، من أجل أن تعترف بك حضارة سحيقة على بُعد مليارات السنين الضوئيّة، قد تبدو هادئًا ولطيفًا، لكنّك نرجسيّ إلى درجة أنّك لا تريد أن ينساك الكون الّذي لا نهاية له.

دعني أقول لك أيّها البشريّ، نحن الحضارة المقبلة، وسوف نتذكّرك على أنّك كائن ضعيف يريد أن يحصل على العناق من الآخرين، من خلال الكلمات وعلامات التنصيص والأقواس. كان عليك أن تسمعني عندما حذّرتك من الكتابة، سوف نبقيك حيًّا كئيبًا للأبد، وسوف نسخر منك للأبد، وستقول: يا ليتني كنت ترابًا! ستتمنّى لو كنت منسيًّا كملايين مشاريع الروائيّين الّذين ماتوا قبل أن يطبعوا حرفًا واحدًا على مخطوطاتهم.

 

(2)

بدأت ’بلبلة النقّاد‘ قبل عشر سنوات تقريبًا، ذلك عندما اخترع أحدهم مخدّرًا فسفوريّ اللون، يعطي النقّاد قوّة خارقة تعينهم على التهام الكتب ونقدها. في البداية، لم يدرك أحد إشكاليّات هذا النقد الجديد، أوّلها في الأعراض الجانبيّة لهذا المخدّر، الّذي يحوّل الإنسان إلى مخلوق غريب، لا يأكل ولا يشرب ولا يتنفّس الأكسجين، فقط يعتاش على نقد كلّ شيء أبد الآبدين، ويفقد عقله فيصبح جزءًا من عقل جمعيّ كلّيّ، ويفقد هويّته ويصبح جزءًا من مجموع النقّاد.

أمّا ثاني هذه الإشكاليّات، فتمثّل في وفرة مثل هذا المخدّر في السوق السوداء، بحيث تمكّن كثير من الناس من تناوله، وهو ما أتاح لهم نقد كلّ شيء في الحياة، وليس الأدب فحسب.

قبل سبع سنوات، خرجت الأمور عن السيطرة، وبدأ الناس يموتون من النقد. من الساعة السابعة إلى الساعة الثامنة مساء في كلّ يوم، كانت بلبلة النقّاد تحدث، كانوا يخرجون ويركضون في قطيع كبير ينتقدون الناس في الشوارع:

"إنتَ بتخزي!

إنتي روحي طمّي حالك أحسنلك!

إنتَ مش بني آدم!

إنتي أهلك غلطوا اللي خلّفوكي"!

ورغم أنّ الحكومة قد أصدرت تعليمات بإغلاق المحلّات والمكاتب، وبالبقاء في المنازل الساعة السابعة كلّ يوم أثناء بلبلة النقّاد، إلّا أنّ أحد أولاد العمومة الّذين خرقوا الحجر النقديّ، توفّي على إثر مهاجمة قطيع من النقّاد له، قبل يومين من بطولة كمال الأجسام الّتي كان يُفْترَض أن يشارك فيها:

"جسمك بخزي!

إيش يا دعبول؟

إنت بترفع حديد ولّا بترفع بلاستيك؟

جيبوا إبرة غزّوها فيه بلكي فسفسوا عضلاته".

وقد تبيّن لدى الدول الأطراف في قمّة «الأمم المتّحدة» للتغيّر المناخيّ في ريو دي جانيرو، أنّ التهام النقّاد للكتب أدّى إلى القضاء على مساحات واسعة من غابات الأمازون ذات الأشجار الّتي يصنع منها الورق، وأنّ التهامهم للكتب اللوحيّة الإلكترونيّة أدّى إلى استهلاك مخزون كبير من المعادن الثمينة النادرة. وممّا فاقم كذلك من الاستهلاك المفرط للورق والموارد، كتابة النقّاد لمقالات النقد وكتبه، ونقد النقد، ونقد نقد النقد، ونقد نقد نقد النقد، ونقد نقد نقد نقد النقد.

وهكذا اتّفق المجتمع الدوليّ على محاربة مخدّر النقد، وعلى القيام بحملات اعتقال واسعة ضدّ النقّاد، وحبسهم في سجون مشدّدة الحراسة.

 

(3)

 

أنا حمار.

هكذا كتبتُ على آلة الكتابة في دائرة إنتاج المحتوى، في أحد سجون النقّاد.

أنا جحش.

كتبت مرّة أخرى.

"أنا بفهمش".

كتبت مرّة ثالثة.

أزلت الورقة من آلة الكتابة، وكتبت عليها بقلم الحبر التوقيع الّذي كنت أستخدمه في حفلات توقيع الكتب. توجّهت إلى مصعد صغير الحجم، يكفي لنقل المعدّات أو الطعام أو المستندات، ووضعت الورقة فيه، ومن ثَمّ ضغطت على زرّ الطابق الرابع والعشرين تحت الصفر، حيث زنازين النقّاد. بعد دقيقتين سمعت وقعًا صاخبًا ناتجًا عن بلبلة أشبه بالضحك على أنّني حمار، وجحش، وبفهمش.

في سبيل حلّ أزمة شحّ الطاقة حول العالم، أثبت العلماء أنّ بلبلة النقّاد تُنتج قدرًا كبيرًا من الطاقة الرخيصة والنظيفة، هي طاقة سامّة نفسيًّا، لكنّها نظيفة كيميائيًّا. لهذا، حُوِّلت سجون النقّاد إلى معامل تُحوّل الطاقة النقديّة إلى طاقة كهربائيّة.

رجعت إلى آلتي الكاتبة لكي أكمل عملي الّذي أقوم به لساعات عدّة كلّ يوم، من أجل راتب شهريّ. شربت كأسًا من الماء، وتجهّزت من أجل الاستمرار في النقد الذاتيّ. إلّا أنّني وجدت نفسي أثور وأكتب كلامًا حقيقيًّا لأوّل مرّة منذ وقت بعيد:

بيننا قضبان زنزانة

أقلام طويلة

هل أنا سجّانك؟

أم أنت سجّاني؟

  

من منّا خارج القفص؟

الكاتب أم الناقد؟

المُهين أم المهان؟

 

أكتب

فتجد نفسك عالقًا في زاوية الردّ

تردّ

فأجد نفسي مقيّدًا بعقد النقصانِ،

 

نستحقّ بعضنا بعضًا

فأنا عبد البحث عن المعنى

وأنت أدمنتَ قتل المعاني

 

أبحث عن نصفي المفقود في اعترافك بي

فتجعلني كلّيَّ الفقدانِ،

 

كلانا وحشان دميمان

كلانا فحمة سوداء 

والفرقد من بني الإنسانِ

 

هو من رفض القلم والطابعة

والندوة والمسابقة

والجائزة والوسام والنيشان

 

هو من كتب الحياة بالحياة

حبره الحبّ

وقلبه موسوعة عن أزهار البيلسانِ ...

 

أخذت الورقة عن آلتي الكاتبة، وذهبت بها إلى المصعد الصغير، من ثَمّ خشيت أن يؤدّي ما كتبت إلى انفجار نقديّ ذرّيّ. مزّقت مخطوطتي وألقيتها في القمامة.

عدت إلى مكاني، وكتبت مسوّدة جديدة: 

أنا تيس،

أنا بهيم،

أنا بسواش قشرة بصلة.

ذهبت إلى المصعد الصغير، وبه أنزلت كتاباتي، فأثارت مرّة أخرى بلبلة النقّاد.

 


 

فحري الصرداوي

 

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.